29‏/03‏/2009

عيد غزة




صوت البحروهو يغلي صباحا بالزبد، وينشررائحة الموت ،لارائحة العيد !
أصنع القهوة، بحذر.. أخاف أن يسلب أحدهم مني رائحتها. فهذا الصباح الشتوي البارد. يصهل راغباً بالقهوة!
ربما هذا آخر فنجان أشربه .. على مهل.. ممتلئاً بكل حواسي التي باتت تكره الموت، وتحبها!
أزيح ركام الغبار.. وكل الأثاث الرث من داخل روحي.. أفتح كل نوافذي لأتنفس هواء يخلو من رائحة الموت.. والتخاذل..!
لكن.. أتشردق.. بالنفس الاول...!
مع هذا الصباح أتذكر أمل، تلك التي تتمنى أن تنال حظاً من اسمها.أتذكر لون عيونها العسلية، وضحكتها الشتوية المبلله دائما بمطر ما، وشعرها الجميل الذي يحمل رائحة أرض ما بعد المطر!
حين قالت ببراءة :أريد... وصمتت،
قلت: ماذا تريدين يا أمل ؟
- لا شيء. أجابت،
والقليل من الخجل أشعل وجنتاها حدائق من الشقيق الدافئ،أوشكت أن احثها على الاِفصاح برغبتها، لكن شكل ثوبها البالي، وضحكتها التي تكبر سبعون عاماً على وجهها كانا ينهشاني !
فاقتربتُ منها، وبحنانٍ سري..
قلت لها:أتريدين لعبةً ً للعيد؟
ورسمتُ ابتسامة المنتصر الذي أدرك ماالذي يريده المقابل له!
ابتسمتْ، جعلتني أكبُر، وأكبُر، وأكبُر،أكبَر مما أنا عليه الان. وقالتْ بهدوء لا يشي بهدوء طفلة:لا، أريد دفئاً، وخبزاً، وزهرة أقحوان تخاف أن تنبت قرب نافذتي!
صفعتني بكلماتها التي لم أتوقعها،وألجمتني. لم أدرِ ما كُنهُ ذاكَ الاحساسِ الغامضِ الذي تلبسني. فمسدت على شعرها وقبلتها لتنبعث منه تلك الرائحة.

يالله كلما قلت "غزة".. شوكة في أقصى قلبي توجعني،ويَلتفُ حبلٌ أنيق حولَ رقبتي ليخنقني بهدوء فأنت ستتعثر بالموت في كل طريق تسلكه
انتشل جسدي الذي في كل لحظة أخاف أن أفقد الاحساس به .لذا يجب أن تتمرن على البقاء على قيد الحياة!
أصبحَ لا وقت للعيد،أوللفرح، لا وقت للوقت حتى,وكل الوقت للموت، ترتب بيتك وتعد له القهوة الصباحية ،ثم يقرأ الجريدة معك، ويطالع وجهك كل صباح، قبل خروجك من نفسك، ويسيرعلى الرصيف قربك، يصافح الناس بمودة مثلك، وفي المساء ينام بجانبك.

أمهلني حتى أرتب متاعي اذ لاأريد أن آتيك على عجل، أريدك أن تكون مرتباً وأنيقاً، لكن أثقُ أن ما يلزمني هومجرد رصاصة سأتكبد عناء ثمنها طويلاً!
أتدري خوفي الأكبرأن صمت القبرهو ما سيوجعني أكثر منكَ نفسك!

تعاودني ابتسامة أمل، طفلة ليست طفلة، ربما هم ّ طفلة.أودمية لم تلعب بها،سعادة لم تحظها، أرجوحة لا تدري كيف السبيل الى امتطائها، وجعٌ يعتصرني،وعيد أي عيد ورائحة الموت العفن تخنقنا؟!
صباحٌ بلا كهرباء فلا داعي اذاً لأن تشعل الراديو، وتعرف الأخبار فشكل المدينة وحده ينبؤك بكل شيء.
لأي طفل, وأم ثكلى ،أو جارة عجوز لا تجد دواء لمرضها نرحب بالعيد؟
ترفق بنا وتأخر،أولا تأتي.. أريد أن آخذ أمل الى فرح العيد، أريد أن أعلمها الطيران على الارجوحة، وأن ترى ألوان الفساتين الزاهية. أريد لها عيداً،ممتلأً بالعيد!
لا أريد لها عيداً عادياً. لايحمل شكل العيد، أو طعمه!
شيء في داخلي يبكي،ويتكسر، ويذبل، وهولازال يمتطي صهوته ويجيء. وأمل لازالت تقف هناك وتبتسم بتلك الطريقة التي تظن أنها كبرت بها.
ابقَ بعيداً , انسنا هذا العام. لاتطرق بابنا بتؤدة، حتى لا تفكر بأن تلقي علينا تحية الصباح ذات صباح عيد!

الان، وأنا خارج غزة. خارج نطاق الزمن،والاعياد. لازلت أتذكر أمل، تلك الطفلة التي لا أعرف إن مازالت على قيد الحياة، وان كانت كذلك فهل تدري أن موسم المدرسة بات قريباً؟ ربما لامدرسة في حيها ربما لا حي أصلا الان!
وهل تتنفس بصعوبة وتنتظرمن ينتشل جسدها الهش من تحت الركام؟!
اتذكر يوم أتيتُ و مجموعة من رفقاء العمل بالكثير من الكراسات الخاصة بالدراسة. ابتسمتْ برفق اقتربتْ مني وسحبتْ معطفي لتهمس بأذني :
- سعيدة لانتظام الدراسة من جديد ..
وأزهرت عينها بالكثير من الياسمين .
لالا بل أتخيلها تطالعُ صفحة السماء ، كما عهدتها، وتدندن بأغانٍ علموها اياها في المدرسة.

تزداد اعداد الشهداء،وتكبر، وتنمو كانها وحشٌ مرعب من وحوش الرسوم المتحركة، يسير في كل مكان ،يدخل كل بيت ويلتهم كل طفل. يبدو أن تلك الوحوش التي كنا نرهبهم بها مثل "العامورة ،والبعبع" قد خرجت من قصصنا لتلتهمهم حقاً،يبدوأن أطفالنا مذنبون بارتكابهم ذنب الطفولة!

يزورني أحد الاصدقاء القدامى ليخترق ضعفي بحضوره, يجالسني ويفتح التلفاز لأنه لا يريد أن يفوت أخبار المساء.
ويقول لي:
- "أتقلص كلما شاهدت التلفاز، أصبح أكثر التصاقا بشيء ما لا أعرفه
هل تعيش تلك الحالة التي لا أعرف ماذا أسميها؟؟ هل تشعر بأنك عاجز، ومتخاذل، ولا تفعل شيء سوى التفرج على ما يحدث، دون عمل شيء؟!
أكاد أقول له نعم أعيش .. بل أعيش أكثر من ذلك ولكن أحتفظت بالحديث لنفسي..
وأكملت حلاقة ذقني الا أن تدهورَ الوضعِ الذي بكل بساطة يعرض على التلفاز..فبدل أن أرى الى أين وصلت يدي بالشفرة حدقتُ في مرآة روحي ورحت أفكر فجرحتُ نفسي ونزلت قطرة دم .. آلمني مسحي اياها ، وتجاهل لونها القاني, نظرت إلى صديقي وتمنيت لو قلت له :
- بكل جسدي شيء يشبه هذا الوخز الدائم لكن دون نزف .
لكن صمتُ ..واكملت حلاقة ذقني.


النهاية
آيات بكري

هناك 3 تعليقات:

Eslam Samir يقول...

/
إذن فنحنُ نكتُب مذكراتنا
لا لـ تخفيف الوجع بل لـ تخلِيده
و لتخليد الوجع الذي لا يزول من القلب
بـ رائحة غزة المُرَّة ..

ثمة املٍ واحدة في حياتِك
و آمالِ كثيرات تنتظِرن من يوقف عنهن ألم الوخْزْ ..
حقاً قرأت الواقع بـ طريقة سردية
يخفف أحيانا السرد ما بنا
دعنا نكذب على أنفسنا
لا ضير بالكذِب [آيات] !

أَنْـًـًـًـًدَلُـًـًـًسْ يقول...

يدميني
ويصرعني
واموت سهوا بقطار حروفك الدامية
اللون في عينيك برد السهول
تقتلني مدونتك
عاشت فلسطين

اخوك أندلس
فلسطين
قطاع غزة

اتشرف بزيارة مدونتي
http://www.andalos1988.blogspot.com/

صالح خضر يقول...

لا أعتقد أن العيد مر هكذا
أو كما قلتِ

كان عيدا
نعم

احتفلنا
بعدد موتانا

وشربنا كأس نصرنا المزعوم

ورفعنا راياتنا
كانت ملابس الذين فقدوا في الحرب

دمت بود